روابي الفلسطينية.. واغتيال الحلم النموذجي
التجارب العالمية في بناء مدن جديدة حاضرةٌ في كل مكان، ولكن في فلسطين المحتلة فالواقع مختلف تماماً، فالشعب الفلسطيني ما يزال يصارع يومياً كي ينتزع مساحةَ صالحةً للبناء من الاحتلال الإسرائيلي خصوصاً فيما يتعارف عليه بمناطق C.
توج هذا الصراع بانفراج عام 2008م وافتتاح القطاع الخاص لأكبر مشروع عقاري في الأراضي المحتلة، مدينة روابي. تكلفة هذا المشروع ضخمة جداً مقارنة بمقدرات الشعب الفلسطيني، 1.2 مليار دولار مخصصةَ للبناء فقط بسعة إجمالية تصل إلى 46 ألف مواطن. انطلقت الأعمال ومعها بدأت الشائعات والمجابهة، العديد من الشعارات أطلقت على المدينة كـ "مستوطنة"، "مدينة السلام"، "مساحة العيش المشتركة"، لم توقف أيٌ من هذه الاتهامات أو الكلمات المشروع واستمر في تقدمه.
افتتاح المدينة
العام المنصرم شهد افتتاح المدينة وانتقال العديد من الشركات لمكاتب جديدة في المركز التجاري. فرص عمل جديدة ومتنفس جديد للفلسطينيين في المناطق المحاصرة، أكثر من ألفي شخص يتجول في المدينة يومياً خلال النهار علماً وعملاً، فالشركات الجديدة المنتقلة للمدينة ومع اتساع مكاتبها وسهولة استقبال وافدين جدد فتحت المجال أمام برامج تعليمية عملية لطلاب الجامعات الفلسطينية خصوصاً في المجال التقني.
أضف على ذلك وخلال الفترة المنصرمة عملت إدارة على تنظيم العديد من المهرجانات الفنية واستقبال فنانين مختلفين من الأقطار العربية المجاورة. فالمدرج الجديد والذي يعد من الأكبر في الشرق الأوسط في المدينة بارقة أمل في تنمية الجوانب الفنية للمجتمع الفلسطيني كغيره من المجتمعات.
تطبيع أم اقتصاد مرتبط؟
تحجم العديد من الشركات على افتتاح مشاريع أو مكاتب لها على الأراضي الفلسطينية إضافة الى ما يطلق عليه بعدم "الاستقرار السياسي" أو "الأمني"
منذ تشكل السلطة الفلسطينية بدأت العديد من التساؤلات عن ماهية التعامل مع نظام الاحتلال والذي بفعل الاتفاقيات الموقعة ما بينه وبين منظمة التحرير الفلسطينية أصبح واقعاً أرضاً وقانوناً. هذه التساؤلات أجيبت على الأرض فالسوق الفلسطيني وبالرغم من محاولات الاكتفاء هنا أو هناك مليء ببضائع الاحتلال، والتي لا يمكن الاستغناء عنها أو لا يوجد لها بديل في معظم الأحيان. عدا عن ذلك العدد الهائل من العاملين في الأراضي المحتلة الداخلية. فأكثر من 120 ألف عامل يتوجه يومياً للعمل في الأراضي المحتلة. شركات مدينة روابي كغيرها من الشركات الفلسطينية مجبرة في بعض الأحيان على التعامل مع الاحتلال وفي أحيانِ أخرى هو الموفر الوحيد لفرص العمل للشباب الفلسطيني، كما في قطاع البناء أو المصانع ولا يختلف الأمر في الجانب التقني.
لهذا الموضوع إيجابيات وسلبيات فاختلاط الشباب الفلسطيني بالتقنيات المتقدمة وأساليب البرمجة من وجهة نظر شخصية فتح المجال أمام العديد من الكفاءات لتطوير قدراتها ومن ثم الخروج من وسط هذه الشركات لافتتاح شركات خاصة تقوم فيما بعد بجلب مشاريع خارجية تستثمر في بناء مؤهلات أخرى. عدا عن كون معظم هذه المشاريع قائمة على شركات عالمية بمعظمها لا "إسرائيلية". هذا الاختلاط وإن كان ضمنياً يعترف بوجود "إسرائيل" فإن وضعه وتأويله لا يخرج من إطار الواقع المفروض على الفلسطينيين.
الشعب الفلسطيني أو دولة فلسطين غير معترف فيها فعلياً، ومن ذلك تحجم العديد من الشركات على افتتاح مشاريع أو مكاتب لها على الأراضي الفلسطينية إضافة الى ما يطلق عليه بعدم "الاستقرار السياسي" أو "الأمني" في مناطق تحكم وسيطرة السلطة الفلسطينية فمثل هذه الأمور بطبيعة الحال تجعل رجال الأعمال أو أصحاب القرار في قلق من الاستثمار بالسوق الفلسطيني، فلا تعني الكفاءات شيئاً إن لم تضمن قدرتها على تأدية العمل في بيئة آمنة. وبناءً عليه كان التعامل مع شركات الاحتلال أو مكاتب الشركات العالمية في الأراضي المحتلة المنفذ الوحيد أمام العديد من شركات تكنولوجيا المعلومات في فلسطين خصوصاً في بداياتها. كانت هذه النقطة محورية في تطوير القدرات التقنية للشباب الفلسطيني مطلع الألفية الثانية فألاف فرص العمل أصبحت متاحة ليس بحسبة الأرض أو على حساب قضيتهم.
فالشركات التقنية في الضفة وبالأخص مدينة روابي كغيرها من حاضنات الوطن لا تخلو ممن يعتبرون بـ "تهديد أمني" لمصالح الاحتلال، وعلى النقيض فموظفو أي من الشركات لا يتم النظر في خلفياتهم فالكل مرحب ومقدر لاسيما من دفع ثمناً في هذا الوطن. بناء مثل هذه العلاقات مع شراكات عالمية جعل من الممكن فيما بعد تخطي العقبة القائمة بالاحتلال ومحاصرته للشعب الفلسطيني في كل جوانب حياته وبالتالي فتح مكاتب خاصة بها داخل المدن الفلسطينية أمثال مدينتي روابي ورام الله بعلاقة غير مرتبطة مباشرة بمكاتبها بالأراضي المحتلة.
مدينة روابي أنموذج يستحق التوقف عنده، والنظر إليه والإيمان بما سيقدمه خلال السنين القادمة فاستغلال أية بقعة قبل أن تصل إليها أراضي المستوطنات يساهم في دعم صمود الشعب الفلسطيني
تخوين لا أساس له
خلال الأسابيع الماضية انطلقت حملة قوية على وسائل التواصل الاجتماعي واصمةً العاملين في مدينة روابي وبالأخص الشركات التقنية بصفات مؤسفة قائمة بمعظمها على اتهامات غير دقيقة، فمن جهة يطلق على العاملين فيها "وقحين" ومن جهة أخرى "مطبعين". هذه الاتهامات المجحفة لم تأخذ بعين الاعتبار عدة نقاط أساسية:
أولاً: الشركات الموجودة في مدينة روابي مسجلة رسمياً في السلطة الفلسطينية وكافة مشاريعها قانونية، أي بمعنى لا تتعارض مع أقره ووافق عليه المشرع والمواطن الفلسطيني.
ثانياً: التعامل مع الشركات في الأراضي المحتلة مشروط وغير قائم بتاتاً على اسقاط أيِ من حقوق الشعب الفلسطيني ويشار الى مكاتب الشركات في المدينة باعتبارها فلسطينية وبأيدي عاملة فلسطينية.
ثالثاً: المشاريع المشتركة لا تتعارض مع نداء حملة المقاطعة، على سبيل المثال ترفض كل الشركات التعامل مع أي مشاريع قائمة في المستعمرات أو تدعم بشكل مباشر أو غير مباشر أحد المستعمرات.
رابعاً: تعامل الشركات التقنية في مدينة روابي لا يختلف بتاتاً عن باقي المصالح التجارية والتي تصدر منتجاتها للداخل، ليست بعلاقات اجتماعية وليست مؤتمرات سياسية بل مجرد فرص عمل ومنفذ خارجي لبيع كفآتنا وقدراتنا.
مدينة روابي نموذج يستحق التوقف عنده، والنظر إليه والإيمان بما سيقدمه خلال السنين القادمة فاستغلال أية بقعة قبل أن تصل إليها أراضي المستوطنات يساهم في دعم صمود الشعب الفلسطيني فأينما حل العمران بقي الناس ونموا. واجب النصح والمشورة فيما يخطئ فيه القائمون على المدينة هو الأولى لا التخوين والطعن.
نهايةً فالحُجة اليوم على من لم يستطع التخطيط بعيداً ولم يملك وجهة نظر واضحة لم يمكن أن يؤول اليه وضع الشباب الفلسطيني بعد 20 عاماً من التأسيس لا على من خلق منفساً جديداً لهم وأعطاهم بارقة أمل تزيد من تمسكهم في الأرض وتمنع معظمهم عن الهجرة الى الخارج بحثاُ عن العيش، والوقاحة ليست لمن بنى ودعى.
للاطلاع على الخبر عبر الموقع الذي قام بنشره، الرجاء الضغط هنا